طوفان الأقصى- مناهج تفكير جديدة وقراءة الواقع المعاصر

المؤلف: هشام جعفر11.17.2025
طوفان الأقصى- مناهج تفكير جديدة وقراءة الواقع المعاصر

لقد قادني التأمل العميق – وآمل ألا يجانبني الصواب – إلى الاعتقاد بأن "طوفان الأقصى" يمثل فرصة سانحة لإعادة تأكيد المناهج الفكرية التي ينبغي أن توجه تفكيرنا في القرن الحادي والعشرين. هذه المناهج، في تصوري – ولا أزعم الجزم – تختلف جوهريًا عن أنماط التفكير التي سادت في القرن العشرين، والتي بدأت تتغير في ثمانينيات القرن الماضي، ثم ترسخت وتعمقت في العقد الأخير من ذلك القرن.

تستند هذه المناهج المعاصرة إلى دعائم راسخة ومتينة، وقد استعرضنا في مقال سابق ركنين أساسيين من هذه الدعائم، وها نحن نستكمل في هذا المقال الركنين الثالث والرابع، وهما:

العرب والمسلمون في أوروبا وأمريكا الشمالية يشاركون المتظاهرين من اليسار والسكان الأصليين والسود وغيرهم في التنديد بالحرب في غزة، في حين يتحالفون مع اليمين المحافظ في معارضة تدريس التربية الجنسية في المدارس.

ثالثًا: الانطلاق من الوقائع الصلبة لإعادة تقييم الأفكار

على سبيل المثال، لا يمكن فهم الخطابات السياسية العربية بمعزل عن رصد التحولات العميقة في هياكل الدولة، والتي تشهد إعادة تعريف لأدوارها ووظائفها، ومتابعة تطورات السوق والاقتصاد، حيث يمتزج القطاع الخاص بسيطرة الدولة، وتتداخل النيوليبرالية مع اقتصاد تقليدي لم يستوعب قيم النيوليبرالية وأدواتها بعد.

لقد أتاح لنا هذا النهج، الذي يعتمد على الوقائع الملموسة بدلًا من الأفكار المجردة، استحضار العديد من الفاعلين المؤثرين في "الطوفان". هنا، يمكننا الإشارة إلى الدول الإقليمية والدولية، وملاحظة التفاعل الحيوي بين هذه الدول والجهات الفاعلة من غير الدول، مثل التنظيمات والحركات العابرة للحدود. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال تأثير المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، والمثقفين، والفنانين، وغيرهم.

كما يساعد هذا المنهج أيضًا على إدراك مناطق الالتقاء والتقاطع بين المكونات المختلفة. لقد كان مفهوم العدالة والموقف من السلطة – أي سلطة كانت – هو القاسم المشترك الأعمق الذي جمع أطياف الفاعلين المتنوعين الذين تظاهروا دعمًا للفلسطينيين، كما أوضحت في مقال سابق على موقع الجزيرة نت.

وبموجب هذه الطريقة التحليلية، يصبح فهم بدايات ونهايات الحقب التاريخية أكثر وضوحًا. فمع الانسحاب المهين للولايات المتحدة من أفغانستان في سبتمبر/أيلول 2021، يمكننا الحديث عن نهاية حقبة سبتمبر/أيلول 2001، التي رفعت خلالها راية "الحرب على الإرهاب". كما يمكننا مناقشة الادعاءات التي حاولت الربط بين سبتمبر الإسرائيلي والسبتمبر الأميركي.

الانطلاق من الواقع الملموس – بدلًا من الانطلاق من المسلمات الفكرية – يعني رفض الأفكار القائمة على التجاوز الكلي، ويؤكد على الحاجة الماسة للبحث عن التجاور والتعايش والتداخل. هنا، يبرز السؤال عن أسباب استمرار ظواهر معينة واختفاء أخرى، وعن السياقات التي تدفع نحو هذا أو تحول دونه.

عند هذه النقطة، أود أن أؤكد أنني لست من المؤمنين بفكرة التجاوز والانقطاع في فهم الواقع، كما يتجلى في بعض المفاهيم التي تسبقها عبارة "ما بعد". فأنا أنتمي إلى مدرسة فكرية تؤكد على أهمية التحول التدريجي في الفترات الانتقالية، والذي يتضمن التجاور والتعايش والتداخل بين القديم والجديد، وبين الظواهر المختلفة.

من هذا المنظور، يمكننا النظر إلى حماس والمشروع الصهيوني: ما الذي تغير؟ وما هي عناصر الاستمرارية؟ وما هو تأثير "الطوفان" على مستقبل كل منهما؟

نقطة أخرى جديرة بالذكر، وهي أنه لا توجد استثنائية للظواهر والحركات والخطابات؛ فهي جميعًا نتاج الجهد البشري – الذي نفخ فيه الله من روحه – وبالتالي، فإن البحث عن تطورات الظواهر ومقارنتها ببعضها البعض في المجتمعات المختلفة هو أمر بالغ الأهمية.

هذا المنهج يسمح لنا بتجاوز الهوس بفكرة صمود المجتمع الفلسطيني، الذي حاول البعض إلصاقه به دون تحليل معمق وإدراك كافٍ لعناصر قوته وعوامل ضعفه. فالفلسطينيون هم بشر من بني البشر، يعتريهم الضعف والخوف وحب الدنيا وكراهية الموت، وهذا يعني ضرورة دعمهم ومساندتهم ليتمكنوا من الصمود والاستمرار في المقاومة.

نقطة أخرى مهمة، وهي ما أطلقت عليه في كتابات سابقة "تشظي الاستقطابات وتفتتها". فالعالم المعاصر تهيمن عليه القضايا والمفاهيم الجزئية، مثل التغير المناخي، وحقوق الإنسان، وقضايا الجندر، والموضوعات المحددة المتفرعة عنها، مثل الإجهاض أو تدريس التربية الجنسية في المدارس. لذا، فإن الموقف يتحدد وفقًا لكل قضية على حدة.

فالعرب والمسلمون في أوروبا وأمريكا الشمالية يخرجون مع المتظاهرين من اليسار والسكان الأصليين والسود وغيرهم للتعبير عن رفضهم للحرب في غزة، ولكنهم في المقابل يصطفون مع اليمين المحافظ في معارضة تدريس التربية الجنسية في المدارس.

إن أهمية الانطلاق من الواقع تكمن في ضرورة التوجه نحو إصلاح الهياكل والبنى ومعالجة السياقات التي أفرزت المشاكل، بدلًا من استنزاف طاقتنا في الجدل البيزنطي حول الأبعاد الثقافية دون إحداث تأثير ملموس على حياة الناس. وهي الظاهرة التي أطلق عليها البعض "جمهورية الجدل"، خاصة وأن التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي يستنزف الكثير من الطاقة التي كان يمكن توجيهها لتغيير الواقع.

رابعًا: إعادة صياغة الأسئلة مع التحرر من القيود القديمة

في كل مرحلة تاريخية، كانت هناك أسئلة محورية تشغل الفكر وتوجه الجهود، ولكنها كانت في نهاية المطاف نتاج تفاعل بين عنصرين أساسيين: هيكل الدولة وطبيعة الاقتصاد.

ومع كل تطور تشهده هياكل الدولة العربية وصيغة الاقتصاد المطبقة بها وعلاقتها بتطورات هياكل الاقتصاد الدولي، نشهد تداعيات مماثلة على الخطابات السياسية والثقافية السائدة. فالحديث عن الحضارة والنهضة نشأ في هذا السياق وتأثر بهذين العاملين بشكل أساسي.

وفي الزمن المعاصر، انصبت هموم المواطن العربي على تحقيق العيش الكريم القائم على الكرامة الإنسانية، والذي يستند إلى عدالة توزيع الفرص والموارد والدخل والثروة.

قد يساعدنا مفهوم التعددية – الذي هو نتاج أصيل لرسم الخرائط التفصيلية التي قدمتها – في إعادة النظر في الأسئلة السائدة والبحث عن أسئلة جديدة.

وبناءً على ذلك، يمكننا التساؤل عن مناطق التقاطع التي يستند إليها الحراك العالمي الداعم للفلسطينيين: كيف تحقق هذا التقاطع؟ وما هو مستقبله؟ وما هي تأثيراته على السياسة الغربية تجاه القضية الفلسطينية؟

إن عدم الاكتفاء بتأكيد الظواهر كما كانت، بل إدراك سياقاتها وخصائصها المستجدة، هو أمر في غاية الأهمية.

ومن سمات الأسئلة المعاصرة أنها أسئلة تتعلق بمجمل البشرية، وهي في جوانبها المختلفة تخص الإنسانية جمعاء. صحيح أن تجلياتها تأخذ طابعًا محليًا، ولكن يجمعها جوهر واحد. نحن بصدد اشتراك في القيم لأنها إنسانية عامة، وتعدد في المداخل والطرق المؤدية إلى تحقيقها.

إن البدء بأسئلة جديدة أو إعادة النظر في الأسئلة المطروحة يتطلب التحرر من الديباجات الفكرية، وذلك بهدف اكتشاف السياسة الكامنة خلفها والمصالح الاقتصادية التي تتطلع إلى تحقيقها.

أنا أدرك تمام الإدراك أن هناك صراعًا محتدمًا على المعايير التي يجب أن تحكم عمل المؤسسات الدولية، وفي مختلف المجالات كالإنترنت والتغير المناخي والتجارة الدولية والذكاء الاصطناعي، ولكنه صراع لا يحمل طابعًا حضاريًا، بل تغلب عليه المنافسة السياسية والبحث عن تحقيق المصالح الاقتصادية.

إن مفهوم "صراع الحضارات" الذي صاغه عالم السياسة الأميركي هنتنغتون كان يستهدف خدمة الهيمنة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي استندت إلى القطب الواحد. أما الخطابات الدينية التي استخدمها الساسة الإسرائيليون والغربيون، فكانت تهدف إلى حشد وتعبئة قطاعات من الرأي العام خلف قادتهم في معركة لا تحمل طابعًا دينيًا، كما أكدت حماس في وثيقتها التي أصدرتها أواخر الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني 2024).

نقطة أخيرة أود التأكيد عليها، وهي أن التنافس والصراع قد يخفيان البنى المتشابهة التي يستند إليها المتصارعون. فبنية الاقتصاد الصيني والأميركي هي من طبيعة رأسمالية، وإن اختلفت بينهما مساحات تدخل الدولة. وهم حين يتنافسون على المعايير التي يجب أن تحكم النظام العالمي، فإنهم يستهدفون تحقيق مصالحهم الذاتية.

إن اتفاقات التطبيع التي أطلق عليها "اتفاقات أبراهام" قد أدت في النهاية إلى تحالف بين الرأسماليات الكبيرة في الخليج وإسرائيل، وكانت محصلتها النهائية على حساب المواطنين العاديين في كلا الجانبين.

إن الرأسماليات الكبرى في كل مكان تتشابه في جوهرها، بغض النظر عما تتدثر به من غترة وعقال أو برنيطة إفرنجية أو الكيباه اليهودية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة